فصل: أقوال شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتب التصوف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موقف أهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة **


 أقوال شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتب التصوف

60- أقوال شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتب التصوف‏.‏

سئل شيخ الإسلام عن ‏(‏إحياء علوم الدين‏)‏ و‏(‏وقوت القلوب‏)‏ فأجاب‏:‏

‏"‏أما كتاب ‏(‏قوت القلوب‏)‏ وكتاب ‏(‏الإحياء‏)‏ تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب‏:‏ مثل الصبر والشكر، والحب والتوكل، والتوحيد ونحو ذلك‏.‏ وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد وأجود تحقيقاً، وأبعد عن البدعة مع أن في ‏(‏قوت القلوب‏)‏ أحاديث ضعيفة وموضوعة، وأشياء كثيرة مردودة‏.‏

وأما ما في ‏(‏الإحياء‏)‏ من الكلام في ‏(‏المهلكات‏)‏ مثل الكلام على الكبر، والعجب والرياء، والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود، ومنه ما هو منازع فيه‏.‏

و‏(‏الإحياء‏)‏ فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين‏.‏

وقد أنكر أئمة الدين على ‏(‏أبي حامد‏)‏ هذا في كتبه، وقالوا‏:‏ مرضه ‏(‏الشفاء‏)‏ أي كتابه ‏(‏الشفاء‏)‏‏.‏ وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم‏.‏

وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، وهو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه ‏(‏الفتاوى 10/551،552‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا كلام في غاية الإنصاف والعدل، وشهادة بحق، ولم يأمر شيخ الإسلام بهجر الكتابين مطلقاً بل حذر مما فيهما من الشر، ولما كان هناك كثير من المسلمين متعلقين بكتاب ‏(‏الإحياء‏)‏ فإن الحافظ العراقي -رحمه الله- خرج أحاديثه من أجل التحذير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة وتصدى بعض السلفيين كذلك لتنقيته‏.‏

61- رأي شيخ الإسلام في تفسيري الزمخشري وابن عطية‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏

‏"‏و‏(‏تفسير ابن عطية وأمثاله‏)‏ أتبع للسنة والجماعة وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيراً ما ينقل من ‏(‏تفسير محمد بن جرير الطبري‏)‏ وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدراً، ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف، لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب‏"‏ ‏(‏الفتاوى 13/361‏)‏‏.‏

وفي كلام شيخ الإسلام من الفوائد ما يلي‏:‏

1- تفضيل شيخ الإسلام لـ ‏(‏تفسير ابن عطية‏)‏ على تفسير ‏(‏الزمخشري‏)‏ مما يدل على اطلاعه التام على التفسيرين كليهما، ولقد كنت بحمد الله ممن اطلع على هذين الكتابين واستفدت منهما فوائد لغوية وبلاغية عظيمة‏.‏‏.‏ ولم يكن تفسير ابن عطية عندي عندما كان يدرسنا شيخنا الجليل الذي لم تر عيني مثله، ألا وهو أستاذي محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وجزاه عنا أحسن الجزاء، وكنت أكتب عنه عندما كان يلقي علينا في الجامعة الإسلامية، ثم لما وقع تفسير ابن عطية في يدي وجدت طرفاً عظيماً مما يلقيه شيخنا في هذا الكتاب وخاصة الشواهد العربية لمعاني ألفاظ القرآن‏.‏

2- الزمخشري وابن عطية وإن كانا من المعتزلة إلا أنهما ‏(‏كانا أقرب إلى أهل السنة‏)‏ وهذا يفيدك أنه كان من أتباع الفرقة الواحدة من هم أقرب للسنة من بعض‏.‏

3- إنه يجب أن يعطى كل ذي حق حقه وذلك عند التقييم والسؤال‏.‏ وهذا يهدم الأصل الذي أراد أن يؤصله بعض من كتب في هجر المبتدع أنه لا يجوز أن تذكر حسنة لمبتدع‏.‏

62- تقييم شيخ الإسلام رحمه الله لعدد من التفاسير‏.‏

ولما سئل أيضاً عن أقرب التفاسير إلى الكتاب والسنة، الزمخشري أم القرطبي أم البغوي أم غير هؤلاء‏؟‏ أجاب‏:‏

‏"‏وأما ‏(‏التفاسير‏)‏ التي في أيدي الناس فأصحها ‏(‏تفسير محمد بن جرير الطبري‏)‏ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين‏:‏ كمقاتل بن بكير والكلبي، والتفاسير غير المأثورة بالأسانيد كثيرة، كتفسير عبدالرزاق، ووكيع وابن أبي قتيبة، وأحمد بن حنبل، واسحاق بن راهويه‏.‏

وأما ‏(‏التفاسير الثلاثة‏)‏ المسؤول عنها فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة ‏(‏البغوي‏)‏ لكنه مختصر من ‏(‏تفسير الثعلبي‏)‏ وحذف من الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك‏.‏

وأما ‏(‏الواحدي‏)‏ فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليداً لغيره‏.‏ وتفسيره ‏(‏تفسير الواحدي البسيط والوجيز‏)‏ فيها فوائد جليلة وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها‏.‏

وأما ‏(‏الزمخشري‏)‏ فتفسيره محشو بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن، وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد، وغير ذلك من أصول المعتزلة‏.‏

و‏(‏أصولهم خمسة‏)‏ يسمونها التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وانفاذ الوعيد، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

لكن معنى ‏(‏التوحيد‏)‏ عندهم يتضمن نفي الصفات، ولهذا سمي ابن التومرت أصحابه الموحدين، وهذا إنما هو إلحاد في أسماء الله وآياته‏.‏

ومعنى ‏(‏العدل‏)‏ عندهم يتضمن التكذيب بالقدر، وهو خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات والقدرة على كل شيء، ومنهم من ينكر تقدم العلم والكتاب، لكن هذا قول أئمتهم، وهؤلاء منصب ‏(‏هكذا بالأصل ولعل المعنى‏:‏ وهذا ليس مذهب الزمخشري‏)‏ الزمخشري، فإن مذهبه مذهب المغيرة بن علي، وأبي هاشم وأتباعهم‏.‏ ومذهب أبي الحسن والمعتزلة الذين على طريقته نوعان‏:‏ مشايخية وخشبية‏.‏

وأما ‏(‏المنزلة بين المنزلتين‏)‏ فهي عندهم أن الفاسق لا يسمى مؤمناً بوجه من الوجوه، كما لا يسمى كافراً، فنزلوه بين منزلتين‏.‏

و‏(‏انفاذ الوعيد‏)‏ عندهم معناه أن فساق الملة مخلدون في النار، لا يخرجون منها بشفاعة ولا غير ذلك كما تقوله الخوارج‏.‏

و‏(‏الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏)‏ يتضمن عندهم جواز الخروج على الأئمة، وقتالهم بالسيف‏.‏ وهذه الأصول حشا ‏(‏بها‏)‏ كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر الناس إليها، ولا لمقاصده فيها، مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين‏.‏

و‏(‏تفسير القرطبي‏)‏ خير منه بكثير، وأقرب إلى طريقة أهل الكتاب والسنة، وأبعد عن البدع، وإن كان كل من هذه الكتب لا بد أن يشتمل على ما ينقد، لكن يجب العدل بينها، وإعطاء كل ذي حق حقه‏.‏

و‏(‏تفسير ابن عطية‏)‏ خير من تفسير الزمخشري وأصح نقلاً وبحثاً، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير، لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها‏.‏

وثم تفاسير أخر كثيرة جداً كتفسير ابن الجوزي والماوردي‏.‏ أ‏.‏هـ ‏(‏الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية 13/385،388‏)‏‏.‏

ويستفاد من إجابة شيخ الإسلام رحمه الله الفوائد الآتية‏:‏

1- أن الإسلام رحمه الله لم ينه عن قراءة هذه الكتب ولا شرائها أو بيعها مع العلم أن الزمخشري بث المذهب في ثنايا تفسيره بعبارة ناعمة خفية، كما قال شيخ الإسلام ‏(‏وهذه الأصول أي أصول المعتزلة حشا بها كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر الناس إليها، ولا المقاصد فيها‏)‏‏.‏ ومع ذلك فإن شيخ الإسلام لم يقل أنه يجب هجره مطلقاً ولا يجوز بيعه واقتناؤه‏.‏

2- إن شيخ الإسلام رحمه الله أعطى المؤلف حقه وقال في ختام تقييمه لهذه التفاسير‏:‏ ‏(‏لكن يجب العدل بينها وإعطاء كل ذي حق حقه‏)‏، وهذا هو الإنصاف، والشهادة بالحق على مصنفات من رمي ببدعة‏.‏

63- ثامناً‏:‏ الموقف من العالم العابد العامل إذا وقع في بدعة‏.‏

قال الإمام الذهبي‏:‏

‏"‏إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، يُغفر له زلَله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك‏"‏ ‏(‏سير أعلام النبلاء 5/271‏)‏‏.‏

قال هذا في ترجمة ‏(‏قتادة بن دعامة‏)‏ وقد رمى بالقدر حيث يقول عنه الذهبي‏:‏ ‏"‏وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مُدلس معروف بذلك، وكان يرى بالقدر، نسأل الله العفو‏.‏ ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وقد بذل وسعه، لإله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل‏"‏ ‏(‏سير أعلام النبلاء 5/271‏)‏‏.‏

وهذا الأصل الذي حققه الإمام الذهبي رحمه الله هو منهج أهل السنة والجماعة في الحكم على علماء الإسلام وقادة الأمة حتى من رمي منهم ببدعة أو من كان له تأويل مخالف للكتاب والسنة، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأقواله في ذلك كثيرة مشهورة، ولو جمعنا كل ذلك لكان مجلداً كبيراً ولكن حسبنا أن ننقل بعض عباراته في ذلك‏.‏

من ذلك‏:‏ ما ذكره عن أبي حامد الغزالي، والذي لعل الغث في كتبه أكثر من السمين، والخطأ أكثر من الصواب، وقد نسبت إليه بعض كتب الزندقة ومع ذلك فهذه شهادة شيخ الإسلام فيه‏:‏

64- شهادة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الغزالي‏.‏

‏"‏وتجد أبا حامد الغزالي مع أن له من العلم بالفقه، والتصوف، والكلام والأصول، وغير ذلك، مع الزهد والعبادة وحسن القصد، وتبحره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك يذكر في كتاب ‏(‏الأربعين‏)‏ ونحوه كتابه‏:‏ ‏(‏المضنون به على غير أهله‏)‏‏.‏ فإذا طلبت ذلك الكتاب واعتقدت فيه أسرار الحقائق، وغاية المطالب وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه، قد غيرت عباراتهم وترتيباتهم، ومن لم يعلم حقائق مقالات العباد، ومقالات أهل الملل يعتقد أن ذاك هو السر الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأنه هو الذي يطلع عليه المكاشفون الذين أدركوا الحقائق بنور إلهي، فإن أبا حامد كثيراً ما يحيل في كتبه على ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد، ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته يدفعون وجود هذه الكتب عنه حتى كان الفقيه أبو محمد بن عبدالسلام فيما علقه عنه ينكر أن يكون ‏(‏بداية الهداية‏)‏ من تصنيفه، ويقول إنما هو تقول عليه، ومع أن هذه الكتب مقبولها أضعاف مردودها، والمردود منها أمور مجملة، وليس فيها عقائد، ولا أصول الدين‏.‏

وأما ‏(‏المضنون به على غير أهله‏)‏ فقد كان طائفة أخرى من العلماء يكذبون ثبوته عنه، وأما أهل الخبرة به وبحاله فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمواد كلامه ومشابهة بعضه بعضاً، ولكن كان هو وأمثاله كما قدمت مضطربين لا يثبتون على قول ثابت، لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة، الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن كما قدمناه وأهل الفهم لكتاب الله والعلم والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتباع هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة‏.‏

ولهذا كان الشيخ ‏(‏أبو عمرو بن الصلاح‏)‏ يقول فيما رأيته بخطه‏:‏ ‏(‏أبو حامد كثر القول فيه ومنه‏.‏ فأما هذه الكتب يعني المخالفة للحق ‏(‏أي نحو الأربعين والمضنون به على غير أهله‏)‏ فلا يلتفت إليها‏.‏ وأما الرجل فيسكت عنه، ويفوض أمره إلى الله‏)‏‏.‏

ومقصوده‏:‏ أنه لا يذكر بسوء لأن عفو الله عن الناسي والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب، وذلك من أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محقق الذنوب، فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة، لا سيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح، والعمل الصالح والقصد الحسن‏.‏ وهو يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية‏.‏

ولهذا‏:‏ فقد رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي فإنه قال‏:‏ ‏(‏شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر‏"‏ ‏(‏الفتاوى 4/63-66‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فأنظر أخي المسلم في هذا الكلام الجليل لشيخ الإسلام رحمه الله في رجل لو ذهبت تعدد مقالاته وكتبه في البدعة وما يمكن أن يحكم على قائلها بالكفر لكان كثيراً جداً‏.‏ ومع ذلك كان ما نقلته لك هو شهادة شيخ الإسلام رحمه الله‏.‏

65- كلام شيخ الإسلام في ابن حزم‏.‏

وأما ابن حزم العالم الجهبذ الفذ رحمه الله فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال فيه‏:‏

‏"‏وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة أهل السنة والحديث، مثل ما ذكره في مسائل ‏(‏القدر‏)‏ و‏(‏الإرجاء‏)‏ ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة، لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث، ويقول‏:‏ إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها، ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك‏.‏

لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات، وإن كان ‏(‏أبو محمد بن حزم‏)‏ في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث وأكثر تعظيماً له ولأهله من غيره، لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى‏.‏

وبمثل هذا صار يذمه من الفقهاء والمتكلمين، وعلماء الحديث، باتباعه لظاهر لا باطن له، كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات، ونحوه من عبادات القلوب‏.‏ مضموماً إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر‏.‏

وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الإطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره‏.‏ فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح‏.‏ وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء‏"‏ ‏(‏الفتاوى 4/18-20‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذه بلا شك شهادة إنصاف وعدل من شيخ الإسلام رحمه الله في شأن علم عظيم من أعلام الإسلام وهو الإمام ابن حزم رحمه الله ونقول رحمه الله وعفا عنا وعنه خلافاً للناشئة الجدد الذين ينكرون على من يقول ابن حزم رحمه الله ويعتقدون أنه مبتدع يجب هجره، ومن الهجر عندهم ترك الترحم عليه وكذلك ترك الإستفادة بعلمه وكتبه رحمه الله فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

66- شهادة شيخ الإسلام رحمه الله في أبي عبدالرحمن السلمي‏.‏

وهذا شيخ الإسلام ينصف ‏(‏أبا عبدالرحمن السلمي‏)‏ علماً بأنه من مؤسسي علم التصوف وهو أول من جمع تفسيراً لهم، وأول من كتب وترجم لطبقات الصوفية ولكن شيخ الإسلام عندما يعرض له يقول‏:‏

‏"‏وكان الشيخ أبو عبدالرحمن السلمي رحمه الله فيه من الخير والزهد والدين والتصوف ما يحمله على أن يجمع من كلام الشيوخ والآثار التي توافق مقصوده كل ما يجده، فلهذا يوجد في كتبه من الآثار السقيمة والكلام المردود ما يضر من لا خبرة له‏"‏ ‏(‏الفتاوى 5/578‏)‏‏.‏

تاسعاً‏:‏ تأييد أهل البدع إذا تصدوا لما هو شر من بدعتهم‏.‏

67- قاعدة في المصالح والمفاسد‏.‏

ولا شك أن منهج الأنبياء والرسل والصحابة وتابعيهم بإحسان هو تحصيل أعظم المنافع في الدين والدنيا، وارتكاب أخف الضررين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏

‏"‏والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق بغاية الإمكان، ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون‏}‏ ‏(‏الأحقاف‏:‏19‏)‏‏"‏، وقد رتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه القاعدة العظيمة على ما يلي مما نحن بصدده من تأييد بعض أصحاب البدع دفعاً لما هو شر من بدعتهم حيث يقول‏:‏ ‏"‏وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين‏:‏ من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً‏"‏ ‏(‏الفتاوى 13/96‏)‏‏.‏ ‏(‏فانظر هذا، وقارن بين من يقال لهم‏:‏ إن جماعة التبليغ مثلاً أسلم على يدي دعاتها خلق كثير وتاب على أيديهم كثير من العصاة، والزناة، وشاربو الخمور، فيقولون ما كانوا فيه خير مما دخلوا إليه‏!‏‏!‏‏!‏‏)‏

وقال أيضاً في من يدعو إلى الإسلام متخذاً الخرافات والأحاديث الموضوعة طريقاً للدعوة، وكذلك أهل الكلام المبتدع الذين يتخذون مناهجهم العقلية طريقاً لإثبات دين الإسلام فيقول شيخ الإسلام‏:‏

‏"‏وهذه الأمور يُسلمُ بسببها ناس ويتوب بسببها ناس يكونون أضل من أصحابها، فينتقلون بسببها إلى ما هو خير مما كانوا عليه، كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيراً مما كانوا، وإن كان قصد ذلك الرجل فاسداً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم‏]‏ وهذا كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي، فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل، وتقوى بها قلوب كثير من أهل الحق، وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها، والخير والشر درجات، فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه‏"‏ ‏(‏الفتاوى 13/95‏)‏‏.‏

وقال أيضاً في ضرب الأمثلة على هذه القاعدة‏:‏

‏"‏وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزواً يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثماً بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفاراً فصاروا مسلمين، وذلك كان شراً بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير‏"‏ ‏(‏الفتاوى 13/95‏)‏‏.‏

وضرب مثالاً آخر فقال‏:‏

‏"‏وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص، قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه، وإن كانت كذباً وهذا كالرجل يسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف، ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه، فنفس ذل الكفر الذي كان عليه وانقهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافراً، فانتقل إلى خير مما كان عليه، وخف الشر الذي كان فيه‏.‏ ثم إذا أراد الله هدايته أدخل الإيمان في قلبه‏"‏ ‏(‏الفتاوى 13/96‏)‏‏.‏

وقال شيخ الإسلام رحمه الله كذلك‏:‏

‏"‏وأكثر المتكلمين يردون باطلاً بباطل، وبدعة ببدعة، لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين، فيصير الكافر مسلماً مبتدعاً، وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهي بدعة أهل السنة‏"‏ ‏(‏الفتاوى 13/97‏)‏‏.‏

ولأجل هذا مدح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض الفئات من أهل الكلام كالكلابية، والكرامية، والأشعرية مع ما هو معلوم من بدعهم في التأويل وذلك لتصديهم لما هو شر منهم من الفرق كالمعتزلة والرافضة، وكذلك لردهم على عموم الكفار والملحدين والزنادقة لأن ما يدعون غيرهم إليه خير مما هم عليه من الكفر والبدع، يقول شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏

‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏ وكذلك متكلمة أهل الإثبات، مثل الكلابية، والكرامية، والأشعرية إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة بما أثبتوه من أصول الإيمان، من إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوة، والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض حججهم، وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة، والرافضة والقدرية، من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة‏.‏

فحسناتهم نوعان‏:‏ إما موافقة أهل السنة والحديث‏.‏ وإما الرد على من خالف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ ‏(‏الفتاوى 4/12‏)‏‏.‏

هذا ولا يكتفي شيخ الإسلام في تأييد الأشاعرة ومن في مثل بدعتهم لتصديهم لما هو شر منهم كالمعتزلة، ويؤيدهم عندما يتصدون لما هو شر من بدعتهم فيقول‏:‏ ‏"‏ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج، فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة، وكلهم يتولون أبا بكر وعمر وعثمان، وكذلك المعروف عنهم أنهم يتولون علياً، ومنهم من يفضله على أبي بكر وعمر، ولكن حكي عن بعض متقدميهم أنه قال‏:‏ فسق يوم الجمل إحدى الطائفتين، ولا أعلم عينها‏.‏ وقالوا إنه قال‏:‏ لو شهد علي والزبير لم أقبل شهادتهما لفسق أحدهما لا بعينه، ولو شهد علي مع آخر ففي قبول شهادته قولان، وهذا القول شاذ فيهم، والذي عليه عامتهم تعظيم علي‏.‏

ومن المشهور عندهم ذم معاوية وأبي موسى وعمرو بن العاص لأجل علي، ومنهم يكفر هؤلاء ويفسقهم، بخلاف طلحة والزبير‏"‏ ‏(‏الفتاوى 13/97‏)‏‏.‏

68- كلام شيخ الإسلام رحمه الله في عبدالله بن سعيد بن كلاب‏.‏

وذلك في تصديه للرد على معطلة الصفات‏:‏

‏"‏وكان ممن انتدب للرد عليهم أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب، وكان له فضل وعلم ودين‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصارى في المسلمين كما يذكره طائفة في مثالبه، ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك فهذا كذب عليه‏.‏ وإنما افترى هذا عليه المعتزلة والجهمية الذين رد عليهم، فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى‏.‏ وقد ذكر مثل ذلك عنهم الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية، وصار ينقل هذا من ليس من المعتزلة من السالمية، ويذكره أهل الحديث والفقهاء الذين ينفرون عنه لبدعته في القرآن، ويستعينون بمثل هذا الكلام ‏(‏انظر أيضاً ذم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لقصار النظر من أهل الحديث، والفقهاء الذين استمعوا إلى وشاية المغرضين من نفاة الصفات في ابن كلاب وكانوا عوناً لأعداء السنة على رجل هو أقرب إلى السنة وقائم بحرب بدعة هي أعظم من بدعته‏)‏ الذي هو من افتراء الجهمية والمعتزلة عليه‏.‏ ولا يعلم هؤلاء أن الذين ذموه بمثل هذا هم شر منه، وهو خير وأقرب إلى السنة منهم‏"‏ ‏(‏الفتاوى 5/555‏)‏‏.‏

فانظر كيف مدح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موقف عبدالله بن كلاب من المعتزلة ونفاة الصفات، وإن كان هو نفسه صاحب بدعة ولكنها لا تصل حد بدعة الجهمية ومعطلة الصفات الذين يقولون‏:‏ إن الله لا يرى، ولا له علم، ولا قدرة وإنه ليس فوق العرش رب، ولا على السموات إله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى ربه إلى غير ذلك من أقوال الجهمية النفاة‏.‏

وما أشبه الليلة بالبارحة فإن العلمانيين واللادينيين بدؤوا بشن الغارة على الدعاة المصلحين، ووصفوهم بصفات خسيسة وافتروا الكذب عليهم بأنه يريدون شراً بأمتهم وأنهم متآمرون، وأنهم‏.‏‏.‏ وأنهم‏.‏‏.‏‏.‏ وأخذ هذه المقالات نفسها هؤلاء الذين ظنوا فيهم بدعة وشراً وكانوا بذلك عوناً للعلمانيين واللادينيين على إخوانهم المسلمين‏.‏

 الباب الرابع

69- ما وقع بين أهل السنة والجماعة من الذم والعيب مما لا يجوز العمل به ولا التعويل عليه‏.‏

لا يجوز التعويل على ما خرج من القدح من عالم في صاحبه حسداً أو بغياً، أو تأويلاً أخطأ فيه، وذلك فيمن ثبت علمه وإمامته وعدالته‏.‏

وقد يقع القدح من بعض العلماء في بعض، ويرمي أحدهم أخاه بالبدعة أو الفسق أو رقة الدين أو الجهل ونحو ذلك، ويكون لذلك دوافع غير الانتصار للدين والغيرة على حرمات الله، والرغبة في حماية جانب الشريعة، وإنما دوافعهم في ذلك البغي والحسد والظلم، وقد كان هذا في الأمم السابقة، ويكون في هذه الأمة كما قال تعالى فيمن سبقنا‏:‏ ‏{‏وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم‏}‏ ‏(‏البقرة 213‏)‏، ولذلك وضع أصحاب الحديث أصلاً عظيماً من أصول الجرح وهو عدم قبول قدح الأقران بعضهم في بعض‏.‏

والأقران هم المتعاصرون من العلماء والمتنافسون في العلم والشهرة والفضل‏.‏

وقد وقع كثير من هذا بين أصحاب الحديث أنفسهم، قال الإمام الذهبي رحمه الله‏:‏

‏"‏كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو مذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم‏"‏ ‏(‏ميزان الإعتدال 1/111‏)‏‏.‏

وقد أورد هذا في ترجمته للحافظ أبي نعيم الأصفهاني والذي تكلم فيه الإمام ابن منده كلاماً فظيعاً قال عنه الذهبي‏:‏

‏"‏كلام ابن منده في أبي نعيم فظيع لا أحب حكايته ولا أقبل قول كل منهما في الآخر، بل هما عندي مقبولان‏"‏ ‏(‏ميزان الإعتدال 1/111‏)‏‏.‏

ومن أمثلة ذلك أيضاً ما كان بين الحافظ النسائي صاحب السنن رحمه الله، وأحمد بن صالح أبي جعفر المصري الذي قال عنه الذهبي‏:‏

‏"‏هو الحافظ الثبت أحد الأعلام‏"‏

ولذلك قال الذهبي‏:‏ ‏"‏آذى النسائي نفسه بكلامه فيه‏"‏ ‏(‏ميزان الإعتدال 1/103‏)‏‏.‏

وللأسف فإن قدح الأقران بعضهم في بعض قد يفضي كذلك إلى التكفير والسعي في استحلال الدم‏.‏ يقول الذهبي رحمه الله في ترجمة ابن منده‏:‏

‏"‏ربما آل الأمر بالمعروف بصاحبه إلى الغضب والحدَّة، فيقع في الهجران المحرم، وربما أفضى إلى التكفير والسعي في الدم، وقد كان أبو عبدالله ‏(‏أي ابن منده‏)‏ وافر الجاه والحرمة إلى الغاية ببلده، وشغب على أحمد بن عبدالله الحافظ ‏(‏يعني أبا نعيم الحافظ‏)‏ بحيث أن أحمد اختفى‏"‏ ‏(‏سير أعلام النبلاء 17/41‏)‏‏.‏

وهذه الكلمات التي أطلقها الحافظ ابن منده في أبي نعيم ظلت تلاحقه، بل إن ذكر اسمه قد كان كافياً في قتل من يذكره‏.‏

وقد عقد الإمام ابن عبدالبر رحمه الله في كتابه ‏(‏جامع بيان العلم وفضله‏)‏ باباً عظيماً بعنوان ‏"‏باب قول العلماء بعضهم في بعض‏"‏ وضع فيه رحمه الله قاعدة عظيمة بعد سياق الأدلة الكثيرة والأخبار المستفيضة حيث يقول‏:‏ هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس، وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك‏.‏‏.‏

وهذه القاعدة التي وضعها هي‏:‏

‏"‏إن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينه عادلة يصح بها جرحه على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والاتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 3/152‏)‏‏.‏

وقال أيضاً‏:‏

‏"‏لا يقبل فيمن صحت عدالته، وعلمت بالعلم عنايته وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتعاون، وكان خيره غالباً وشره أقل، فهذا لا يقبل فيه قول القائل لا برهان له، وهذا هو الحديث الذي لا يصح غيره إن شاء الله‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/162‏)‏‏.‏

وأما الأدلة التي ساقها ابن عبدالبر رحمه الله على هذه القاعدة النفيسة فهي كما يلي‏:‏

1- حديث الزبير بن العوام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم أفشوا السلام بينكم‏]‏ ‏(‏قال شيخنا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني‏:‏ أخرجه الترمذي ‏(‏2/83‏)‏ وأحمد ‏(‏1/165،167‏)‏ ورجاله ثقات غير مولى الزبير، فلم أعرفه ‏(‏الإرواء 3/238‏)‏ ‏(‏صحيح الجامع 1/3361‏)‏ وللحديث شواهد في الصحيح وغيره‏)‏‏.‏

2- الآثار الواردة عن ابن عباس رضي الله عنهما ومالك بن دينار وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب وجلة من التابعين أن بين العلماء حسداً هو أشد الحسد‏.‏

فعن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في زُرُبِهَا‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم 2/151‏)‏‏.‏

والتغاير من الغيرة‏:‏ أي أحدهم يغار من الآخر إذا مدح أو رأى أنه أفضل منه‏.‏ ‏(‏ليتني علمت هذا الحديث في أول الطلب، إذن لاستطعنا أن نفهم أحداثاً كثيرة كانت تحصل بين العلماء الذين أخذنا عنهم العلم، وكانت تنقطع قلوبنا لأجلها، وما كنا ندري أن هذا بسبب الغيرة، والحسد‏!‏‏!‏‏)‏

وعن مالك بن دينار قال‏:‏

‏"‏يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسداً من التيوس، تنصب لهم الشاة الضارب فينب ‏(‏قال في لسان العرب‏:‏ نب التيس ينب نبا، ونبيبا، ونباباً ونبيب‏:‏ صاخ عند الهياج‏.‏ أ‏.‏هـ‏)‏ هذا من ههنا وهذا من ههنا‏"‏‏!‏‏!‏‏!‏

وعن عبدالعزيز بن أبي حازم قال‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏

‏"‏العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يَزْهُ عليه، حتى كان هذا الزمان فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه، حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه ولا يذاكر من هو مثله، ويزهو على من هو دونه فهلك الناس‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/151‏)‏‏.‏

ثم أورد الإمام ابن عبدالبر نقولاً مستفيضة مما حدث بين الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء وأهل الحديث من كلام بعضهم لبعض، وقدح بعضهم في بعض مما لا يجوز أن يقبل منهم، ولا أن يقلدوا فيه ولا أن يتخذ أصلاً في الدين ونحن ننقل هنا المقدار الذي تتضح به الصورة وتتأكد به القاعدة الآنفة ونستغفر الله للجميع‏.‏

وتعليل ما صدر عن هؤلاء الأخيار بعضهم في بعض أنه ربما صدر منهم حال الغضب، ومنه ما حمل عليه الحسد، ومنه ما صدر على جهة التأويل مما لا يلزم فيه ما قاله القائل، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً والحال أنه لا يلزم تقليدهم في شيء من ذلك دون برهان ولا حجة توجبه‏.‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 3/152‏)‏‏.‏

70- أ-بعض ما جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم من تكذيب بعضهم بعضاً مما لا يجوز أخذ أقوالهم فيه‏:‏

1- قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏قيل لعروة بن الزبير‏:‏ إن ابن عباس يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بمكة بعد أن بعث ثلاثة عشرة سنة، فقال‏:‏ كذب إنما أخذه من قول الشاعر‏:‏

قال أبو عمر والشاعر هو أبو قيس بن أنس الأنصاري حيث قال‏:‏

ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقي صديقاً مواتياً

‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/155‏)‏‏.‏

2- وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه سئل عن قول الله عز وجل ‏{‏وشاهد ومشهود‏}‏، فأجاب فيها فقيل إن ابن عمر وابن الزبير قالا كذا وكذا خلاف قوله‏.‏ فقال‏:‏ كذبا‏!‏‏!‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/155‏)‏‏.‏

3- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏كذب المغيرة بن شعبة‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/154‏)‏‏.‏

4- وعن عبادة بن الصامت أنه قال كذب أبو محمد يعني في وجوب الوتر‏.‏‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ وأبو محمد هذا اسمع مسعود بن أوس الأنصاري وهو بدري وتكذيب عبادة بن الصامت له من رواية مالك وغيره في قصة الوتر ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/154‏)‏‏.‏

5- قول السيدة عائشة رضي الله عنها في أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري‏.‏

قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏وروى علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال قالت عائشة‏:‏

‏"‏ما علم أنس بن مالك أبو سعيد الخدري بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانا غلامين صغيرين‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/154‏)‏‏.‏

6- قول عمران بن الحصين رضي الله عنه في سمرة بن جندب رضي الله عنه قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏حديث سمرة أنه قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان يعني في الصلاة عند قراءته، فبلغ ذلك عمران بن الحصين، فقال‏:‏ كذب سمرة، فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن قد صدق سمرة وهذا الحديث مشهور جداً‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/154‏)‏‏.‏

7- قول ابن عمر رضي الله عنهما في أبي هريرة‏:‏

‏"‏ومثله قول المروزي، حدثنا اسحق بن راهويه وأحمد بن عمرو قالا حدثنا جرير عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت،عن طاوس قال‏:‏كنت جالساً عند ابن عمر فأتاه رجل فقال إن أبا هريرة يقول إن الوتر ليس بحتم فخذوا منه ودعوا فقال ابن عمر كذب أبو هريرة جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن صلاة الليل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏[‏مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فواحدة‏]‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/155‏)‏‏.‏

8- قول عائشة رضي الله عنها في ابن عمر، قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏وكذَّبت عائشةُ ابن عمر في عدد عُمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/156‏)‏، وفي أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/155‏)‏‏.‏

قلت وهذا ثابت في الصحيح عنها رضي الله عنها‏.‏

وقال ابن عبدالبر في ختام هذا الفصل‏:‏

‏"‏وقد كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة العلماء عند الغضب كلام هو أكثر من هذا ولكن أهل الفهم والعلم والميز لا يلتفتون إلى ذلك لأنهم بشر يغضبون ويرضون والقول في الرضا غير القول في الغضب‏.‏‏"‏

71- ب- ما جاء عن التابعين والأئمة من قدح بعضهم في بعض مما لا يجوز تقليدهم واتباعهم فيه‏:‏

1- طعن سعيد بن المسيب وعكرمة في بعضهما‏:‏

قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏قال المروزي‏:‏ وحدثنا محمد بن يحيى قال‏:‏ حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن أيوب قال‏:‏ سأل رجل سعيد بن المسيب عن رجل نذر نذراً لا ينبغي له من المعاصي، فأمره أن يوفي بنذره، فسأل الرجل عكرمة، فأمره أن يكفر عن يمينه، ولا يوفي بنذره فرجع الرجل إلى سعيد بن المسيب فأخبره بقول عكرمة، فقال ابن المسيب‏:‏ لينتهين عكرمة أو ليوجعن الأمراء ظهره، فرجع إلى عكرمة فأخبره، فقال عكرمة أما إذ بلغتني فبلغه، أما هو فقد ضربت الأمراء وأوقفوه في تبان من شعر، وسله عن نذرك أطاعةٌ هو لله أم معصية‏؟‏ فإن قال‏:‏ هو طاعة لله فقد كذب على الله لأنه لا تكون معصية الله طاعة، وإن قال هو معصية فقد أمرك بمعصية الله‏.‏

قال المروزي فلهذا كان بين سعيد بن المسيب وبين عكرمة ما كان حتى قال فيه ما حكى عنه أنه قال لغلامه ‏(‏بُرد‏)‏‏:‏ لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/156‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ومعلوم أن عكرمة رحمه الله من خيار أصحاب ابن عباس وهو ثقة مأمون، وكذلك الحال في شأن سعيد بن المسيب ولا يجوز أخذ قول هذين الإمامين بعضهما في بعض‏.‏

2- طعن مالك بن أنس رحمه الله في ابن اسحق، وابن إسحاق في مالك بن أنس‏:‏

قال أبو عمر ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏وكذلك كان كلام مالك في محمد بن إسحاق لشيء بلغه عنه تكلم به في نسبه وعلمه، قال أبو عمر‏:‏

‏"‏والكلام ما رويناه من وجوه عن عبدالله بن إدريس أنه قال‏:‏ قدم علينا محمد بن إسحق فذكرنا له شيئاً عن مالك فقال‏:‏ هاتوا علم مالك فأنا بيطاره، قال ابن إدريس‏:‏ فلما قدمت المدينة ذكرت ذلك لمالك بن أنس فقال‏:‏ ذلك دجال الدجاجلة، ونحن أخرجناه من المدينة، قال ابن إدريس وما كنت سمعت بجمع دجال قبلها على ذلك الجمع‏!‏‏!‏ وكان ابن إسحق يقول فيه‏:‏ إنه مولى لبني تيم قريش وقال فيه ابن شهاب أيضاً فكذب مالك ابن اسحاق لأنه كان أعلم بنسب نفسه، وإنما هم حلفاء لبني تيم في الجاهلية وقد ذكرنا ذلك وأوضحناه في صدر كتاب التمييز وربما كان تكذيب مالك لابن اسحاق في تشيعه، وما نسب إليه من القول بالقدر وأما الصدق والحفظ فكان صدوقاً حافظاً أثنى عليه ابن شهاب، ووثقه شعبة والثوري وابن عيينة وجماعة جلة‏.‏

وقد روى عن مالك أنه قيل له من أين قلت في محمد بن إسحاق أنه كذب فقال سمعت هشام بن عروة يقوله‏.‏

وهذا تقليد لا برهان عليه وقيل لهشام بن عروة من أين قلت ذلك‏؟‏ قال‏:‏ هو يروي عن امرأتي والله ما رآها قط‏!‏‏!‏

وقال أحمد بن حنبل رحمه الله عند ذكره هذه الحكاية قد يمكن أن إسحاق كان يراها أو يسمع منها من وراء حجاب من حيث لم يعلم هشام‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/156‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فانظر كيف ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى إسقاط ما قاله مالك في ابن إسحاق، وشهد بما يوجبه الإنصاف لكل من الرجلين وكيف حملوا مقالة مالك في ابن اسحاق على الخصومة، ودفع السيئة بالسيئة ولم يحملوا ذلك على أنه حق يجوز الأخذ به‏.‏

3- ما كان بين الأعمش وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى‏:‏

قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏حدثنا أحمد بن عبدالله، حدثنا مسلمة بن القاسم، حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا محمد بن أحمد بن فيروز، حدثنا علي بن خشرم، قال‏:‏ سمعت الفضل بن موسى يقول دخلت مع أبي حنيفة على الأعمش نعوده فقال أبو حنيفة‏:‏ يا أبا محمد لولا التثقيل عليك لزدت في عيادتك أو قال‏:‏ لعدتك أكثر مما أعودك، فقال له الأعمش والله إنك علي لثقيل وأنت في بيتك فكيف إذا دخلت علي‏؟‏‏!‏ قال الفضل‏:‏ فلما خرجنا من عنده قال أبو حنيفة إن الأعمش لم يصم رمضان قط، ولم يغتسل من جنابة‏!‏‏!‏ فقلت للفضل‏:‏ ما يعني بذلك‏؟‏ قال‏:‏ كان يرى الماء من الماء ويتسحر على حديث حذيفة‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/157‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ معنى قوله يرى الماء من الماء‏:‏ أي‏:‏ لا يوجب الغسل من الجنابة إلا بالإنزال، وليس عند التقاء الختانين كما هو الصحيح، ومعنى يتسحر على حديث حذيفة أي‏:‏ يرى جواز الأكل والشرب إلى ظهور النور‏.‏

4- قدح الإمام مالك رحمه الله في أتباع أبي حنيفة‏:‏

قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏

‏"‏حدثنا أحمد بن محمد، قال حدثنا أحمد بن الفضل، قال حدثنا محمد بن جرير، قال‏:‏ حدثنا يونس بن عبدالأعلى، قال‏:‏ حدثنا ابن وهب، قال‏:‏ كنا عند مالك وذكر عنده أهل العراق فقال‏:‏ أنزلوهم منكم منزلة أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم‏:‏ ‏{‏وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد‏}‏ ‏(‏العنكبوت‏:‏46‏)‏ الآية

وروينا عن محمد بن الحسن أنه دخل على مالك بن أنس يوماً، فسمعه يقول هذه المقالة التي حكاها عنه ابن وهب في أهل العراق، ثم رفع رأسه فنظر فكأنه استحيا وقال‏:‏ يا أبا عبدالله أكره أن تكون غيبة كذلك أدركت أصحابنا يقولون‏.‏

وقال سعيد بن منصور كنت عند مالك بن أنس فأقبل قوم من أهل العراق فقال‏:‏ ‏{‏تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏72‏)‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/157‏)‏‏.‏

5- قدح ابن المبارك في أبي حنيفة رحمه الله‏:‏

قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏وذكر أبو يعقوب يوسف بن أحمد المكي قال حدثنا جعفر بن إدريس المقري قال‏:‏ حدثنا محمد بن أبي يحيى قال حدثنا محمد بن سهل قال‏:‏ سمعت ليث بن طلحة يقول‏:‏ سمعت سلمة بن سليمان يقول‏:‏ قلت لابن المبارك وضعت من رأي أبي حنيفة ولم تضع من رأي مالك قال‏:‏ لم أره علماً‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/157-158‏)‏‏.‏

وعقب عبدالبر على ذلك قائلاً‏:‏

‏"‏وهذا مما لا يسمع من قولهم، ولا يلتفت إليه ولا يعرج عليه‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/157-158‏)‏‏.‏

6- قدح قتادة، ويحيى بن أبي كثير كل منهما في الآخر‏:‏

قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏وروى أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي، قال سمعت جبير بن دينار، قال‏:‏ سمعت يحيى بن أبي كثير قال‏:‏ لا يزال أهل البصرة بشر ما أبقى الله فيهم قتادة‏.‏

قال‏:‏ وسمعت قتادة يقول‏:‏ متى كان العلم في السمَّاكين‏؟‏ يعرض بيحيى بن أبي كثير كان أهل بيته سماكين‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/157‏)‏‏.‏

7- طعن الإمام مالك رحمه الله في أتباع الإمام الأوزاعي وأتباع أبي حنيفة‏:‏

قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر، قال‏:‏ حدثنا ابن أبي دليم، قال حدثنا ابن وضاح، قال‏:‏ حدثنا محمد بن يحيى المصري، قال‏:‏ سمعت عبدالله بن وهب يقول‏:‏ سئل مالك عن مسألة فأجاب فيها فقال له السائل أن أهل الشام يخالفونك فيها فيقولون كذا وكذا، فقال‏:‏ ومتى كان هذا الشأن بالشام‏؟‏‏!‏ إنما هذا الشأن وقف على أهل المدينة والكوفة‏.‏

وهذا خلاف ما تقدم من قوله في أهل الكوفة وأهل العراق، وخلاف المعروف عنه من تفضيله للأوزاعي، وخلاف قوله في أبي حنيفة المذكور في الباب قبل هذا، لأن شأن المسائل بالكوفة مدارة على أبي حنيفة وأصحابه، والثوري‏.‏

قال عبدالله بن غانم قلت لمالك‏:‏ إنا لم نكن نرى الصفرة ولا الكدرة شيئاً، ولا نرى ذلك إلا في الدم العبيط، فقال مالك‏:‏ وهل الصفرة إلا دم‏؟‏‏!‏ ثم قال إن هذا البلد إنما كان العمل فيه بالنبوة، وإن غيرهم إنما العمل فيهم بأمر الملوك‏.‏

وهذا من قوله أيضاً خلاف ما تقدم، وقد كان أهل العراق يضيفون إلى أهل المدينة أن العمل عندهم بأمر الأمراء مثل هشام بن إسماعيل المخزومي وغيره‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/158‏)‏‏.‏

قال أبو عمر بن عبدالبر معقباً‏:‏ ‏"‏وهذا كله تحامل من بعضهم على بعض‏"‏‏.‏

8- طعن ابن القاسم وابن وهب كل منهما في صاحبه‏:‏

قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏حدثنا عبدالرحمن بن يحيى، قال‏:‏ حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم، قال‏:‏ حدثنا عبيدالله بن يحيى، عن أبيه يحيى بن يحيى، قال‏:‏ كنت آتي ابن القاسم فيقول لي‏:‏ من أين‏؟‏ فأقول‏:‏ من عند ابن وهب، فيقول‏:‏ الله، الله، اتق الله فإن أكثر هذه الأحاديث ليس عليها العمل‏.‏

قال ثم آتي ابن وهب فيقول لي من أين‏؟‏ فأقول‏:‏ من عند ابن القاسم فيقول‏:‏ اتق الله فإن أكثر هذه المسائل رأي‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/159‏)‏‏.‏

9- قدح ابن معين رحمه الله في الإمام الشافعي ومجموعة من خيار الأئمة والرواة الثقاة رحمهم الله‏:‏

قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏وقد كان ابن معين عفا الله عنه يطلق في أعراض الثقاة الأئمة لسانه بأشياء أنكرت عليه منها قوله‏:‏ عبدالملك بن مروان أبخر الفم وكان رجل سوء‏.‏

ومنها قوله كان أبو عثمان النهدي شرطياً، ومنها قوله في الزهري أنه ولي الخراج لبعض بني أمية، وأنه فقد مرة مالاً فاتهم غلاماً له فضربه فمات من ضربه، وذكر كلاماً خشناً في قتله على ذلك غلامه تركت ذكره لأنه لا يليق بمثله‏.‏

ومنها قوله في الأوزاعي‏:‏ أنه من الجند ولا كرامة‏.‏ وقال حديث الأوزاعي عن الزهري، ويحيى بن أبي كثير ليس بثبت‏.‏

ومنها قوله في طاوس أنه كان شيعياً ذكر ذلك كله الأزدي محمد بن الحسين الموصلي الحافظ في الأخبار التي في آخر كتابه في الضعفاء عن الغلابي عن أبي معين‏:‏ وقد رواه مفترقاً جماعة عن ابن معين منهم عباس الدوري وغيره‏.‏

ومما نقم على ابن معين وعيب به أيضاً قوله في الشافعي‏:‏ أنه ليس بثقة، وقيل لأحمد بن حنبل‏:‏ إنه يحيى بن معين يتكلم في الشافعي‏!‏ فقال أحمد ومن أين يعرف يحيى الشافعي‏؟‏ هو لا يعرف الشافعي‏!‏‏!‏ ولا يقول مثل ما يقول الشافعي أو نحو هذا ومن جهل شيئاً عاداه‏.‏

قال أبو عمر‏:‏

صدق أحمد بن حنبل رحمه الله أن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي‏.‏ وقد حكى عن ابن معين أنه سئل عن مسألة من التيمم فلم يعرفها‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/160‏)‏‏.‏

وقد حاول بعضهم نفي طعن ابن معين في الإمام الشافعي فعقب ابن عبدالبر على ذلك قائلاً‏:‏

‏"‏وقد صح عن ابن معين من طرق أنه كان يتكلم في الشافعي على ما قدمت لك حتى نهاه أحمد بن حنبل وقال له لم تر عيناك قط مثل الشافعي‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/160‏)‏‏.‏

10- قدح مجموعة من الأئمة والعلماء في الإمام مالك رحمه الله‏:‏

قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏وقد تكلم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة، كرهت ذكره، وهو مشهور عنه، قاله إنكاراً منه لقول مالك في حديث ‏[‏البيعان بالخيار‏]‏، وكان إبراهيم بن سعد يتكلم فيه ويدعو عليه‏.‏

وتكلم في مالك أيضاً فيما ذكره الساجي في كتاب العلل عبدالعزيز بن أبي سلمة، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وابن اسحق، وابن أبي يحيى، وابن أبي الزناد، وعابوا أشياء من مذهبه، وتكلم فيه غيرهم لتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم، وروايته عن داود بن الحصين، وثور بن زيد‏.‏

وتحامل عليه الشافعي، وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه حسداً لموضع إمامته، وعابه قوم في إنكار المسح على الخفين في الحضر والسفر، وفي كلامه في علي وعثمان، وفي فتياه بإتيان النساء في الأعجاز، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبوه بذلك إلى ما لا يحسن ذكره‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/161‏)‏‏.‏

ثم عقب ابن عبدالبر على ذلك قائلاً‏:‏

‏"‏وقد برأ الله عز وجل مالكاً عما قالوا وكان إن شاء الله عند الله وجيهاً، وما مثل من تكلم في مالك والشافعي ونظرائهما من الأئمة إلا كما قال الأعشى‏:‏

كناطح يوماً صخرة ليوهيها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

أو كما قال الحسين بن حميد‏:‏

يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/161‏)‏‏.‏

11- حماد بن أبي سليمان يقدح في عطاء، وطاوس ومجاهد‏:‏

قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏وحدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس الخفاف، قال‏:‏ حدثنا محمد بن جرير بن يزيد، قال‏:‏حدثنا محمد بن حميد، قال‏:‏ حدثنا جرير بن عبدالحميد عن مغيرة قال‏:‏ قدم علينا حماد بن أبي سليمان من مكة فأتيناه لنسلم عليه فقال لنا‏:‏ احمدوا الله يا أهل الكوفة فإني لقيت عطاءً وطاوساً ومجاهداً فلصبيانكم وصبيان صبيانكم أعلم منهم‏"‏‏!‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/153‏)‏‏.‏

وهذا القدح من حماد في عطاء وطاوس ومجاهد لا شك أنه تعد وظلم وجعله صبيان الكوفة أفضل من هؤلاء الأجلة من التابعين، لا شك أنه مخالف للعدل والإنصاف ولذلك قال المغيرة‏:‏ هذا القول من حماد بغي منه‏.‏ بل إن الإمام أبا حنيفة وهو من أعلم الناس بحماد يفضل عطاء على حماد‏.‏ ويفضل كذلك عطاء بن أبي رباح ويقول‏:‏ ما رأيت أفضل من عطاء بن أبي رباح ولا أكذب من جابر الجعفي‏.‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/153‏)‏‏.‏

12- قدح الإمام الزهري رحمه الله في عطاء وطاوس ومجاهد‏:‏

قال ابن عبدالبر‏:‏

‏"‏وحدثنا عبدالوارث بن سفيان، قال حدثنا قاسم بن أصبغ، قال‏:‏ حدثنا أحمد بن زهير، قال‏:‏ حدثنا أحمد بن يونس، قال حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري، قال‏:‏ ما رأيت قوماً أنقض لعرى الإسلام من أهل مكة ولا رأيت قوماً أشبه بالنصارى من السبئية‏"‏ ‏(‏قال أحمد بن يونس‏:‏ يعنى بالسبئية‏:‏ الرافضة‏)‏‏.‏

وقال ابن عبدالبر بعد ذلك‏:‏

وهذا ابن شهاب قد أطلق على أهل مكة في زمانه أنهم ينقضون عرى الإسلام ما استثنى منهم أحداً وفيهم من جلة العلماء من لا خفاء بجلالته في الدين‏.‏

وأظن ذلك والله أعلم لما روي عنهم في الصرف ومتعة النساء‏"‏ ‏(‏وأما ما روي عنهم في الصرف، فهو قولهم بجواز الدرهم بالدرهمين، وقد نقل عنهم كذلك إباحة زواج المتعة، ومن أجل ذلك قال عنهم الزهري ‏"‏إنهم ينقضون عرى الإسلام‏!‏‏!‏‏"‏ ولا شك أن هذا حكم جائر لأن ما ذهبوا إليه من القول بالمتعة، والصرف إنما كان إجتهاداً، ومثله يغفر لمن كان مثلهم في العلم والإجتهاد‏)‏‏.‏

13- طعن الشعبي وإبراهيم النخعي كل منهما في الآخر‏:‏

قال ابن عبد البر‏:‏

‏"‏وذكر الحسن بن علي الخولاني، قال حدثنا نعيم بن حماد، قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، قال كنت عند الشعبي فذكروا إبراهيم، فقال ذاك رجل يختلف إلينا ليلاً ويحدث الناس نهاراً، فأتيت إبراهيم فأخبرته فقال‏:‏ ذلك يحدث عن مسروق والله ما سمع منه شيئاً قط‏!‏‏!‏

وحدثنا أحمد بن محمد، قال‏:‏ حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال‏:‏ حدثني زكريا بن يحيى قال‏:‏ حدثنا قاسم بن محمد بن أبي شيبة قال‏:‏ حدثنا أبو معاوية عن الأعمش قال‏:‏ ذكر إبراهيم النخعي عند الشعبي فقال‏:‏ ذاك الأعور الذي يستفتيني بالليل ويجلس يفتي الناس بالنهار، قال‏:‏ فذكرت ذلك لإبراهيم فقال‏:‏ ذاك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئاً‏"‏‏.‏‏!‏‏!‏

وعقب ابن عبدالبر على ذلك قائلاً‏:‏

‏"‏معاذ الله أن يكون الشعبي كذاباً، بل هو إمام جليل والنخعي مثله جلالة وعلماً وديناً‏"‏‏.‏

وفي ختام هذا الباب نورد القاعدة الجامعة التي صاغها ابن عبدالبر رحمه الله حيث يقول‏:‏

‏"‏فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الاثبات بعضهم في بعض فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بعضهم في بعض فإن فعل ذلك ضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً‏.‏

وكذلك إن قبل في سعيد بن المسيب قول عكرمة وفي الشعبي والنخعي وأهل الحجاز وأهل مكة وأهل الكوفة وأهل الشام على الجملة‏.‏ وفي مالك والشافعي وسائر من ذكرنا في هذا الباب ما ذكرنا عن بعضهم في بعض فإن لم يفعل ولن يفعل إن هداه الله وألهمه رشده عندما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صحت عدالته وعلمت بالعلم عنايته وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتعاون وكان خيره غالباً وشره أقل فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/162،163‏)‏‏.‏

وقال الإمام الثوري رحمه الله‏:‏

‏"‏عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والغضب والشهوات دون أي يعي بفضائلهم حرم التوفيق ودخل في الغيبة، وحاد عن الطريق، جعلنا الله وإياك ممن يسمع القول فيتبع أحسنه‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/162،163‏)‏‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏

‏"‏وحدثنا عبدالله بن محمد بن يوسف، قال حدثنا ابن دحمون قال سمعت محمد بن بكر بن داسة يقول سمعت أبا داود سليمان بن الأشعث السجستاني يقول رحم الله مالكاً كان إماماً‏.‏ ورحم الله الشافعي كان إماماً‏.‏ ورحم الله أبا حنيفة كان إماماً‏"‏ ‏(‏جامع بيان العلم وفضله 2/162،163‏)‏‏.‏

72- خلاصة ما ورد في هذه الرسالة‏:‏

أولاً‏:‏ أهل السنة والجماعة لا شك أنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة المتمسكون بكتاب الله سبحانه وتعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإجماع هذه الأمة المرحومة خير أمة أخرجت للناس وجماعتها وهم حراس الدين، الظاهرون على الحق إلى قيام الساعة‏.‏

ثانياً‏:‏ كل ما خالف الكتاب والسنة والإجماع فهو بدعة وما لم يخالف الكتاب ولا السنة ولا الإجماع فليس ببدعة‏.‏

ثالثاً‏:‏ البدع التي ظهرت في المسلمين كثيرة أصولها القديمة خمس هي‏:‏ الخروج، والرفض، والتجهم، والإرجاء والقدر‏.‏

وقد ظهرت بعد ذلك البدع المركبة، وأعظم البدع المركبة التصوف الذي جمع الزندقة والقول بوحدة الوجود، والجبر، وادعاء علم الغيب وسائر البدع العملية من السماع، والعبادات المخترعة، وأسوأ أنواع الإرجاء‏.‏

وظهر في هذا العصر بدعة ‏(‏اللادينية‏)‏ والتي تسمى ‏(‏العلمانية‏)‏ وهي الفصل بين أمور الآخرة والدنيا، وجعل الدين عقيدة قلبية فقط، والحكم بغير شريعة الله‏.‏

رابعاً‏:‏ اتبع أهل السنة والجماعة السياسة الحكيمة في القضاء على البدع، وتقليل شرها ما أمكن ذلك‏.‏

فمن خلفاء الإسلام الراشدين من قاتلهم، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة الذين أقروا بالصلاة وسائر فروض الإسلام وأنكروا فرض الزكاة، وكما قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج لما أظهروا بدعتهم، وقاتلوا المسلمين وكفروهم، وكذلك حرق رضي الله عنه من ادعوا فيه الألوهية وقالوا له أنت هو‏!‏‏!‏ أنت الله‏!‏‏!‏

فقال قولته المشهورة‏:‏

لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قَمْبرَا

ومن بعده قتل خلفاء بني أمية الخوارج وكثيراً من الزنادقة، ومدعي النبوة، وأهل التأويل الباطل كالجعد بن درهم، وجهم بن صفوان‏.‏‏.‏‏.‏

وقتل خلفاء بني العباس كثيراً من رؤوس البدع والزندقة، والوضاعين، كالحلاج وغيره‏.‏

وقام علماء أهل السنة بما أوجب الله عليهم من البيان وإيضاح المحجة، والرد على كل البدع‏:‏ عقائديةً وعمليةً‏.‏

وكذلك أمروا باعتزال رؤوس البدع والضلالات لحصر شر بدعتهم، وإماتتها‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وتركوا الصلاة عليهم أحياناً زجراً لأتباعهم وكان لهم مواقف وضوابط في قبول شهادتهم ورواياتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

هذا مع نظر أهل السنة والجماعة الثاقب في إعلاء منار الدين ونصرة رسالة رسول رب العالمين‏.‏‏.‏

وبالجملة فقد كان موقف أهل السنة والجماعة مع البدع والمبتدعة هادفاً إلى نصر الدين وإيضاح الحق، وعدم إلباس الصراط المستقيم بصراط الذين غضب الله عليهم والضالين‏.‏‏.‏‏.‏

خامساً‏:‏ كثيراً ما يصدر كلام فيه خشونة وجرح من بعض العلماء الثقات في أقرانهم من العلماء الثقات كذلك، ويكون ذلك مرجعه أحياناً إلى الحسد، أو سرعة الغضب، أو التعجل في الحكم، ومثل هذا الكلام يُطوَى ولا يروى ونَقْلُنا هنا للفصل الخاص بذلك مما ذكره ابن عبدالبر في كتابه ‏(‏جامع بيان العلم وفضله‏)‏ إنما هو لتأصيل هذه القاعدة وهي أن قدح الأفراد والثقات بعضهم لبعض يجب رده وتركه‏.‏‏.‏ ولا يجوز التعويل عليه‏.‏‏.‏ وجعله قاعدة عامة في جواز الوقيعة في أهل العلم، أو التأسي بمن وقع ذلك منهم، أو جرح من أردنا جرحه لأن من أخذ كلام عالمٍ ثقةٍ في عالمٍ ثقةٍ فإنه لن يسلم له أحد في نهاية المطاف‏.‏

وهذا يؤدي حتماً إلى الزيغ والضلال‏.‏

سادساً‏:‏ نشأ في المسلمين اليوم من لا يفرق بين السنة والبدعة، ولا يعرف المصالح الشرعية، فجعل البدعة اللغوية التي لم تخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً كالبدعة الشرعية، ولم يفرق بين بدعة صغرى وبدعة كبرى، ووضع أصولاً من أصول الضلال زعمها أصولاً للسنة والجماعة، وهي أصول للفرقة والخلاف‏:‏

1‏)‏ كإدخالهم القضايا الخلافية العملية في مسمى السنة‏.‏

2‏)‏ وتضليلهم وتبديعهم من لا يأخذ باختيارهم واجتهادهم‏.‏

3‏)‏ وجعل كل من خالفهم في المسائل العملية خارجاً عن منهج أهل السنة والجماعة وداخلاً في مسمى الفرق‏.‏‏.‏‏.‏

4‏)‏ وحملهم أخطاء المجموع على الجميع‏.‏

5‏)‏ وعقدهم الولاء والبراء على المسائل الخلافية العملية‏.‏

6‏)‏ وسعيهم الحثيث لاستخراج عيب لكل عامل للإسلام، واجتهادهم في الوقوف على زَلَّة له من أجل هدمه، وقطعه عن أمته وحرمان المسلمين من جهاده وعلمه وعمله‏.‏

7‏)‏ وتنشئتهم صغار الطلبة على الطعن في علماء الإسلام، وفتح عيونهم أول ما تفتح على مثالب السابقين والمعاصرين‏.‏‏.‏‏.‏

فترى الطالب يَعْلَمُ عن أخطاء ابن حجر، والنووي، وابن حزم، وابن الجوزي، وابن عبدالسلام، ورشيد رضا، وسائر علماء المسلمين، أضعاف‏.‏‏.‏ أضعاف ما يعرف عن إحسانهم وعلمهم، وجهادهم، ودعوتهم‏.‏

وهذه جميعها من أصول أهل الخلاف والبدعة، وليست من أصول السنة والجماعة‏.‏

ومن أجل إظهار منهج أهل السنة والجماعة على الحقيقة كان جمع هذه الرسالة‏.‏

والحمد لله أستغفره وأتوب إليه وأسأله قبول هذا العمل، وأن يجعله له خالصاً‏.‏ اللهم ما كان فيه من صواب فمنك وحدك لا شريك لك، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان‏.‏‏.‏ اللهم إني أعوذ بك أن أضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أظلِم أو أظلَم أو أجهَل أو يُجهَل علي‏.‏‏.‏‏.‏

ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم‏.‏

**************

***********

******